
نقدم لكم نص الدرس الثاني مدرستي الاولى لمادة اللغة العربية للصف السادس الفصل الدراسي الاول المنهج العماني
كانَتْ أولُ مدرسةٍ تعلّمتُ فيها أهمَّ دروسي في الحياةِ بيتي، وقدْ بنى أبي – بعدَ أنْ تحسّنَتْ حالُهُ – بيتًا مُستقلا في الحارةِ التي يَسْكُنُها هو وأخوهُ، يتكوّنُ من دورينِ غيرِ الأرضيِّ، ففي الدورِ الأرضيِّ مجلسٌ للضيوفِ وكلُّ دورٍ بهِ ثلاثُ غُرَفٍ وتوابعُها.
كانَ طابعُ البيتِ البساطةَ والنظافةَ؛ فأثاثُ أكثرِ الحُجَرِ حصيرٌ فُرِشَتْ عليهِ سجَّادةٌ، وإذا كانَتْ حُجْرَةَ نوم رأيْتَ في رُكنِ من أركانِها منامًا ولحافًا ومخدَّةً، تُطوى في الصباح وتُبسَطُ في المساءِ؛ فلمَّ نكُنْ نستخدِمُ الأسرّةَ، وأدواتُ المطبخ في غايةِ البساطةِ … وهكذاَ، ولوْ أردْنا أنْ ننتقلَ لكفتْنا عَرَبَةٌ كبيرةٌ لنقل الأثاثِ، أمّا أكثرُ ما في البيتِ وأثمنُهُ وما يَشْغَلُ أكبرَ حيّزِ فيهِ فهيَ الكتبُ؛ حيثُ المجلسُ مملَوءٌ دواليبَ صُفّفَتْ فيها الكتبُ، وحُجْرَةُ أبي مملوءةٌ بالكتبِ، وحُجْرَةٌ في الدّورِ الأوّلِ مُلئَتْ كذلكَ بالکتبِ.
وكانَ أبي مولعًا بالكتبِ في مُختلفِ العلومِ؛ في الفقهِ والتفسيرِ والحديثِ واللغةِ والتاريخِ والأدبِ والنحوِ والصرفِ والبلاغةِ، وإذا كانَّ الكتابُ مطبوعًا طبعتينٍ، لمْ يرتخ حتى يقتنيَ الطبعتينِ، وقدْ مكّنَهُ عملُهُ مصححًا في المطبعةِ الأميريّةِ أنْ يقتنيَ كثيرًا مما طُبعَ فيها، وكانَتْ هذهِ المكتبةُ أكبرَ مُتعةٍ لي حينَ استطعتُ الاستفادةَ منها، وقدْ احتفظْتُ بخيرِها نواةً لمكتبتي التي أعتزُّ بها، وأُمضي الساعاتِ فيها كلَّ يومٍ إلى الآنَ.
في حُجْرَةٍ في هذا البيتِ وُلِدْتُ، وكانَتْ ولادتي في الساعةِ الخامسةِ صباحًا من أوّلِ أكتوبر سنةَ (١٨٨٦م)، وكُنْتُ رابعَ ولدٍ وُلدَ، وكانَ بيتُنا محكومًا بالرعايةِ الأبويّةِ، فالأبُ وحدَهُ موجِّهُ زِمامٍ أمورِهِ؛ فلا يغيبُ الأولادُ عن البيتِ بعدَ الغُروبِ خوفًا من عتابِهِ، وماليّةُ الأسرةِ كلُّها في يدِهِ يَصرِفُ منها كلَّ يوم فيما يصلُحُ ويُفيدُ، يشعُرُ شعورًا قويًّا بواجبِهِ نحوَ تعليم أولادِهِ؛ فهوَ يعلّمُهم بنفسِهِ، ويُشرِفٌُ على تعليمِهم في مدارسِهم، سواءٌ في ذلكَ أبناؤُهُ وبناتُهُ، ويُتعِبُ في ذلكَ نفسَهُ تعبًا لا حدَّ لهُ، حتى إنّهُ قد يكونُ مريضًا فلا يأْبُهُ بمرضِهِ، ويتكىُّ على نفسِهِ لِيُلِقِيَ عليْنا درسَهُ، يرحمُنا ولكنّهُ يُخفي رحمتَهُ ويُظهِرُ صرامتَهُ؛ وتتجلّى هذهِ الرّحمةُ في المرضِ إذا أصابَ أحدَنا، وفي الغَيبةِ إذا عَرَضَتْ لأحدٍ منّا … وما إنْ تقدّمَ بيَ العمرُ حتى رأيْتُ البيتَ تؤخذُ فيهِ الأصواتُ ويستشارُ فيهِ الصغیرُ والکبيرُ.
وقد كانَ لنا جدّةٌ – هيَ أمُّ أمِّنا – طيبةُ القلبِ متديّنةٌ؛ يضيءُ وجهُها نورًا، تزورُنا من حينٍ لآخرَ، وتَبيتُ عندَنا فنفرحُ بلقائِها وحسنِ حديثِها، وكانَتْ تعرِفُ من القصصِ الشّعبيّةِ – الرّيفيّةِ منها والحضريّةِ – الشيءَ الكثيرَ الذي لا يفْرَغُ، فنتحلّقُ حولَها ونسمعُ حكاياتِها، وما نزالُ كذلكَ حتى يغلبَنا النّومُ، وهيَ قصصٌ مفرحةٌ أحيانًا محزنةٌ أحيانًا أخرى، منها ما يدورُ حولَ مغامراتِ الأجدادِ والملوكِ والعظماءِ، وتتخلّلُ هذهِ القصصَ الأمثالُ الشّعبيَةُ اللطيفةُ، والجملُ التي يتركّزُ فيها مغزى القصةِ.
ولكنْ كانَ بيتُنا على الغالبِ جدًّا لا هزلَ فيهِ، متحفّظًا ليسَ فيهِ ضَحِكٌ كثيرٌ ولا مَرَحْ كثيرٌ، ويغمِرُ البيتَ الشعورُ الدينيُّ، فأبي يؤدّي الصلواتِ في أوقاتِها، ويُكثِرُ من قراءةِ القُرآنِ صباحًا ومساءً، ويصحو مع الفجرِ لِيُصلِّيَ ويبتهِلَ، ويُكثرُ من قراءةِ التفسيرِ والحديثِ، ويَحكي حكاياتِ الصّالحينَ وأعمالَهم وعبادتَهم، ويؤدّي الزكاةَ ويؤثرُ بها أقرباءَهُ، ويَحُجُّ وتَحُجُّ أمي
معَهُ، ثمَّ هو يُربي أولادَه تربيةً دينيّةً؛ فيوقظُهم في الفجرِ لِيُصلّوا، ويُراقبُهم في أوقاتِ الصلاةِ الأُخرى، ويسائِلهم متى صلّوا وأينَ صلّوا، وكلُّنا يحتفلُ برمضانَ ويصومُهُ؛ وعلى الجملةِ فأنتَ إذا فتحتَ بابَ بيتِنا شممْتَ منْهُ رائحِةَ الدّينِ ساطعةً زاكيةً.
كانَ هذا البيتُ أهمَّ مدرسةٍ تكوّنَتْ فيها عناصرُ جسمي وخُلُقي، ثمَّ إنَّ كلَّ خصائصِ البيتِ التي ذكرتُها انعكسَتْ في طبيعتي، وكوّنَتْ أهمَّ مميّزاتِ شخصيَّتي، فإنْ رأيْتَ فيَّ إفراطًا في جانبِ الجدِّ وتفريطًا في جانبِ المرحِ، أو رأيْتَ صبرًا على العملِ وتحمُّلِ المشفّاتِ، فاعلمْ أنَّ ذلكَ كلَّهُ صدَّى لتعليمِ البيتِ ومبادِئِهِ، وإنْ رأيْتَ دينًا يَسكُنُ في أعماقِ قلبي، وإيمانًا باللهِ لا تُزلزِلُهُ الشّكوكُ، وإنْ رَأيْتَ بساطتي في العيشِ وكراهتي الشديدةَ لكلِّ تكلُّفٍ وتصنُّعٍ في أساليبِ الحياةِ، فمرجِعُهُ إلى تعاليمِ أبي وما شاهدْتُهُ في بيتي.
الرابط المختصر للمقال: https://oman22.com/?p=20619



