
نص درس عمر وعام الرمادة لمادة اللغة العربية للصف التاسع الفصل الدراسي الثاني
لم يكن الخليفة عمر بن الخطاب ينتظر في سنة ثماني عشرة للهجرة، أن يستقبل عامًا أسودَ قاتمًا، يمتحن الناس في أنفسهم وأموالهم وأخلاقهم وفيما أُتيحَ لهم من الصبر على الشدائد، والثبات للمكروه وشعور التعاطف والتضامن الاجتماعي الذي يلقي في روع كل فرد- مهما تكن منزلته- أنه عضو من جماعة، يسعد بسعادتها، ويشقى بشقائها، ويأخذ بحظّه مما يصيبها من النعماء والبأساء، وما ينوبها من السراء والضراء.
لم يكن عمر يقدّر أن الغيب قد أضمر له ولرعايا دولته هذه المحنة القاسية يمحّص بها قلوبهم، ويصفّي بها نفوسهم، ويعلّمهم بها أن الحياة ليست نعيمًا متصلاً، ولا رخاءً مقيمًا، ولا خصبًا يتجدّد كلما تجدّدت الفصول. وإنما هي مزيج من النعيم والبؤس، ومن اللذة والألم، ومن السعادة والشقاء؛ وأن سبيل الإنسان الذي نمت القيم الإنسانية في قلبه، ألا يطغى إذا استغنى، ولا يبطر إذا نعم، ولا ييأس إذا اُمْتُحِنَ بالبؤس والشقاء، وألا يؤثر نفسه بالخير إن أُتيح له الخير من دون الناس وألا يترك نظراءه نهبًا للنوازل حين تنزل، وللخطوب حيث تلم، وإنما يعطي الناس مما عنده حتى يشاركوه في نعمائه، ويأخذ من الناس بعض ما عندهم حتى يشاركهم في بأسائهم. فالله لم ينشر ضوء الشمس ليستمتع به فريق دون فريق؛ والله لم يرسل النسيم لتتنفّسه طائفة من الناس دون طائفة. والله لم يجرِ الأنهار، ولم يفجّر الينابيع، لتشرب منها جماعات من الناس، وتظمأ إليها جماعات أخرى. والله كذلك لم يخرج النبات من الأرض ليشبع منه قوم ويجوع آخرون، وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع الناس بها جميعًا، تتفاوت حظوظهم من الاستمتاع، ولكن لا ينبغي أن يفرض الحرمان على أحد منهم، مهما يكن شخصه، ومهما تكن طبقته، ومهما تكن منزلته بين مواطنيه.
لم يكن عمر يقدّر ذلك العام أن الله سيرسل إلى الناس عامًا جديدًا يمتحنهم فيه بالجوع والظمأ والعري امتحانًا لم يعرفوا مثله. وكيف له أن يقدّر ذلك، وأمور الدولة الناشئة تجري إلى خير ما كان الناس يحبون من العدل والسعة وكثرة الفيء وغزارة الرخاء. ولكن العام الجديد يقبل بقحطه، فإذا السماء تبخل بمائها حتى تحترق الأرض ظمأ إلى هذا الماء، وحتى تسْوَدَّ كأنها الرماد؛
فيسمي الناس ذلك العام عام الرمادة. ويتأمل عمر الحال فإذا الأزمة تسعى متمهلة متأنية، ملحة في سعيها، فيهرع الناس إلى خليفتهم يلتمسون عنده ما يطعمهم من جوع، ويسقيهم من ظمأ، ويكسوهم من عري.
وينهض عمر لعلاج الأزمة، فيواجه الخطب مصمّمًا على أن ينفذ منه، أو يموت من دونه، مهما تكن الظروف، فيبدأ بنفسه، ويأبى إلا أن يكون كسائر أفراد الشعب، يشقى كما يشقون، ويجوع كما يجوعون، ويظمأ كما يظمأون، ويشتد على نفسه وأهله بمقدار ما تشتد الأزمة على أشد الناس فقرًا وبؤسًا. يفعل ذلك ليعلم الناس كيف يكون التضامن والتعاون والتعاطف، حين تنزل المحن وتلم الخطوب، فيأبى إلا أن يعيش كما يعيش أفقر الناس.
حرّم على نفسه الطيبات حتى تجدها عامة الناس؛ وجعل يطعم الفقراء والمعوزين على الموائد العامة، ويجلس معهم إلى هذه الموائد، يأكل مما يأكلون منه، ولكن الأزمة تشتد وتشتد، وأهل البادية يهرعون إلى المدينة، وكثير منهم لا يستطيعون أن ينتقلوا من أماكنهم. وقد هلك الزرع وجفّ الضرع ونفقت الماشية، وأصبح من الحق على الخليفة أن يدرك هؤلاء الناس في مواطنهم ويحمل إليهم أرزاقهم ما داموا عاجزين عن السعي إلى هذه الأرزاق. ويكتب عمر إلى عمّاله في الأقاليم ليرسلوا الأمداد إلى أهل البادية وأماكن القحط، وأن يوزعوها على المحتاجين؛ وقد فتح بيت المال على مصراعيه، ووزّع الأرزاق على ذوي الحاجات، وكلّف كل أسرة غنية أن تطعم مثل عددها من الفقراء.
ولم يزل ماضيًا في ذلك حتى أتى الله بالفرج، وصار عام الرمادة، بعد الجوع والعطش والفاقة كنزًا من كنوز
الإنسانية لا ينفد ولا يدركه الفناء، يجد فيه الإنسان من العبرة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة ما يجعل
التضامن والتآلف والمحبة وتعاون الناس على الخير من أعظم القيم الإنسانية وأجدرها بالتقديس والاحترام.
طه حسين، المعذبون في الأرض.
الرابط المختصر للمقال: https://oman22.com/?p=16222